يبدو أن علماء التاريخ و نقاده لم يأخذوا بوجهة النظر اليهودية القائلة بنزول الأسفار على موسى, أو كتابته إياها, إذ نرى أكثر العلماء المعاصرين متفقين على القول بأنها كتبت بعد قرون عديدة من عهد موسى. ولإيضاح مذهبهم هذا نورد فيما يلي رأي السيد لودس في منشأ الأسفار السداسية الذي كونه على ضوء آراء العديد من العلماء و تحرياته الخاصة ويقول لودس: اعتاد بعض علماء الآثار النظر باحتقار لكل مصدر يبحث عن أحداث سابقة عن عصر مؤلفه ولو كان البحث بقصد التقريظ أو الجدل و ذلك لاعتقادهم بأن ما يكتب عن حدث بعد مرور الزمن على حدوه تحوم الشكوك حول صدق ما كتب عنه, وفي أكثر الأحيان تكون الكتابة محرفة ولا تستحق البحث ولا يجوز الاعتماد عليها. وعملاً بنظريتهم هذه جنح أكثر العلماء إلى عدم الأخذ بما ورد في التوراة عن الأحداث التاريخية التي يرويها. و أنا و إن كنت لا أتعصب كلياً لهذه النظرية, إلا أني لا اٌقر بتاتاً ما أولي هذا الكتاب من الثقة العمياء طويلاً. فعليه أرى عند التحقيق في أجزاء التوراة آخذ كل قسم منه على حدة, و التدقيق فيه مع مراعاة ظروف تأليفه و زمن صدوره, لأن بعض هذه الأجزاء تبحث عن أمور قريبة الشبه ببعض أحداث التاريخ, و أخرى مطابقة تماماً لأحداث معينة. و من هنا يتضح لنا استحالة نبذه كلياً, وضرورة إخضاع أقسامه للتدقيق التقليدي المعمول به عند التحري عن كنه المصادر القديمة, أي أخذ مضمون النص المراد تدقيقه, و مقارنته مع مضمون كل نص مماثل, ليس في الترجمة العبرانية فحسب بل في الترجمات الأخرى, و على الأخص الترجمات اليونانية, واللاتينية, والسريانية, التي نقلت عن المخطوطات اليدوية القديمة التي تختلف نسبياً عن الترجمة العبرانية التي كتبها الماسورت ( ماسورت: ناقل نصوص التوراة ) وفي نتيجة هذه المقارنة تظهر للناقد نقاط الاختلاف بين الترجمات, ويتضح له أمر هذه الكتاب ووضعه الراهن, مما يشير بجلاء إلى أن جميع فقراته التاريخية مكونة من قصص قديمة, اختارها محرروا الأسفار و دونوها تقريباً بصيغتها الحرفية, متبعين الطريقة المبسطة المجردة من كل زخرف أدبي و تحقيق تاريخي, هذه الطريقة التي اعتمدها مؤرخو الآشور و العرب و بعض كُتّاب القرون الوسطى. و يبدو أن همّ كل منهم كان محصوراً في حشر أكبر عدد ممكن من هذه القصص في مجموعة واحدة. و من ثم نقلها كتبة التوراة (la scribes ) بدورهم بأمانة مشبعة بالتعصب الديني, دون الاهتمام لما في هذه المجموعات من تناقض بين بعضها أو لما في مفرداتها من ازدواجية النصوص, أو التكرار و الإعادة للحدث الواحد. و ازدواجية نص قصة الخليقة الوارد في مطلع الفصل الأول من سفر التكوين (ف –1 – فقرة 1- 2 -4 آ ) و المكرر في فصله الثاني (ف2 – فقرة 4ب ) الذي اكتشفه الناقد فيترينكا ( Vetringa) عام 1683 و من بعده الناقد فيتر (Vitter) عما 1711 و الذي أثبته أخيراً الناقد آستروك (Astruc ) عام 1753, يؤيد ما ذهبنا إليه في وصفنا للطريقة التي اتبعت في تكوين التوراة, و هذه الازدواجية في النص ليست الوحيدة في التوراة, إذ يلاحظ أن حادثة اقتياد زوجة أحد الآباء إلى حريم أمير أجنبي تتكرر ثلاث مرات في سفر التكوين (فصل 12 -20-26 ) مع اختلاف شكلي بسيط في سردها. وحادثة عفو داوود عن اغتيال شاؤول أيضاً تتكرر مرتين دون تغير ملحوظ في تفاصيلها, أو الكلمات التي تبادلها الغريمان (سفر صمؤيل فصل 1 –فقرة24 – و 26 ) كما أننا نلاحظ كثيراً من التناقض في وصف عمليات الاحتلال, وحوادث الفتح في مختلف الأسفار, و إذا أضفنا إلى ما سبق ما تتميز به الأسفار من تعدد في أساليب الكتابة, و طرق الإنشاء, حتى في السفر الواحد و تكرر المفردات في مختلف الأسفار, و آثار التنقيح و التصحيح الظاهرة في أكثرها. لبان لنا جلياً مشاركة الأيدي العديدة في مجموعات التوراة و الأخذ بما أجمع عليه جميع النقاد منذ عهد آستروك, وهو أن هذه الأسفار كُتب من قبل أرع فئات معينة لكل منها مدرستها و عصرها, ولقد أطلق النقاد على كل منها تسمية خاصة باليهوائية ( Yahvistes ) لاصطلاحها على تسمية الخالق بيهوى و زعمها أنه كان يدعى كذلك منذ القدم, و يوافق ظهورها للقرن التاسع قبل الميلاد, وينسب إليها كتابة سيرة الآباء, ويرمز إليها بالحرف (J) و الثانية هي المسماة بالألوهيمية (Elohistes) لزعمها أنا الخالق كان يدعى قبل عهد موسى بإلوهيم. و ظهرت للوجود بعد زمن قصير من ظهور اليهويست و واختصت أيضاً بسير الآباء و يرمز لها بحرف (E) و الفئة الثالثة هي التنيوية Deutéronomistes نسبة لسفر التثنية الذي اختصت بكتابته ولها آثار ظاهرة في عمليات التصليح و التنقيح في الأسفار الأخرى. وساهم أفرادها في الإصلاحات التي أدخلت على الديانة اليهودية في عهد يوشيا, و ظهرت للوجود نحو عام 622 قبل الميلاد و يرمز لها بالحرف (D) و الفئة الرابعة هي التي ظهرت في عهد المنفى و اختصت في كتابة الشرائع والقوانين. وسميت بمدرسة الكهنوت (Ecole Sacerdotale) و يرمز لها بالحرف (P), وهي التي أوجدت ما يسمى بقوانين الكهنوت (Code Sacerdotal) تحت إشراف النبي حزقيال.وهذه الفئات الأربع هي التي كتبت جميع الأسفار الباحثة عن العهود السابقة لعهد المنفى...
فسفر القضاة يحمل طابع فئتي E, J مثل الأسفار الأخرى تماماً, كما يحتوي سفر صموئيل على قصص تحمل طبائع كتاب (E-J) أيضاً كونه منسوباً لمن يحمل اسمه, و الجدير بالذكر عن هذا السفر هو ذكره لاستعمال الكتابة و الوثائق الخطية لأول مرة في التوراة.
يضاف إلى ما سبق ما يلاحظ تقريباً في تكوين أكثر الأسفار من تعدد أساليب الإنشاء, وتجانس مفردات بعضها البعض الآخر, وما فيها من أخطاء تكشف زيف مزاعم نسبتها لأشخاص أو عهود معينة مثل خلو سفر التكوين الذي نسب إلى موسى, حتى من عبارة واحدة تشير إلى علاقته به أو تدوينه إياه, كما تزخر الأسفار الأربعة الأخرى بعبارات توحي بأنها لم تكتب من قبل موسى, خلافاً لما زعمته المصادر اليهودية. أما مظاهر الزيادات و النواقص الغريزية في نصوص الأسفار المكرر لبعض التشاريع, فهي تدل صراحة على تعدد الأيدي التي عملت فيها, وما يصح القول عن في هذه الأسفار الخمسة, يصح أيضاً في كافة الأسفار الأخرى. و من هنا يتضح بجلاء أن أكثرها كتب في عهود متأخرة عما تبحث عنه, و من قبل الفئات التي سبق ذكرها, تجنباً لوقوع الباحث في الالتباس عن مصدر الأسفار, ننصح له بضرورة الإمعان في تحديد المسافة الزمنية الفاصلة في عهد المروي وعصر المؤلف و ميوله الشخصية, إذ ثبت لجميع النقاد ما لهذه النواحي من أهمية عند تقصي الحقائق التاريخية من خلال قصص الأسفار. أما فيما يتعلق بأهمية الأسفار في التطور الديني و الاجتماعي والسياسي لهذا الشعب, فلا مجال لإنكارها, وعلى الأخص أهمية ما كتب منها في العهود اللاحقة لجلاء اليهود عن فلسطين.